أتقدم بأجمل التهاني لأصدقائي للمتوجين ولكل المشاركين اللذين اعتلوا الركح واستمع الجمهور والمختصون لأعمالهم فهذا في حد ذاته تكريم لهم رغم المؤاخذات على عديد الأعمال التي لم تكن في مستوى عراقة هذا المهرجان، وأتقدم بالشكر لمعالي وزيرة الشؤون الثقافية لما أبدته من رعاية خاصة لهذا المهرجان، وأتوجه بشكر خاص للهيئة المديرة ولكل الفاعلين والمنظمين والتقنيين لما بذلوه من جهد كبير في سبيل إنجاح هذه الدورة على مستويات متباينة. وأبلغ امتناني العميق لكل فرد من أفراد الفرقة الوطنية للموسيقى وعلى رأسها قائدها لما قدموه من التزام على الركح وفن وتنسيق عال سيكون له أثر إيجابي في صورة الفرقة الوطنية مستقبلا عسى أن يفكر مديروها في أعمال وتوجهات تخلد فترة إدارتهم فعليا وهو ما يسمى بالعمل الوطني. كما أشكر لجنتي الفرز والتنظيم لتحملهم مسؤوليات كبرى وتحديات قد يكون بعضها مفروضا عليهم
تَقدَّم للمشاركة أكثر من 180 عمل غنائي، واختار منسقو المهرجان أن تنقسم المسابقة إلى صنفين أحداهما مسابقة الأغنية الوترية والأخرى مسابقة الأنماط الجديدة والبعض أطلق عليها اسم “الأغنية البديلة” ولي مؤاخذات كثيرة على هذا التقسيم والتسميات الذكورة، أفرزت هذه السياسة المتبعة في هذا المهرجان ظهور شكل لأغنية “بذيلة” بل هي “مبتذلة” لا ترقى لمثل هذا المهرجان العريق ولا يمكن أن تمثل بأي حال من الأحوال قدوة ومثالا يحتذى به للأجيال التي تابعت هذه العروض… وأثار ظهور هذه الاعمال حفيظة الجمهور والمختصين ونتج عن ذلك صدور تعليقات مخجلة وصلت حد المس بسمعة هذا المهرجان، ولقد اسهم هذا التوجه في إقصاء العديد من الاعمال في الأغنية الوترية من الحضور في المهرجان فكان اجدر باختيار أعمال من الأغنية الوترية وإعطاءهم الفرصة للظهور وهم أهل الاختصاص بدلا عن ما سمعه الجمهور عن مبتدئين من نشاز وعدم تمكن وفهم للغناء والتلحين والشعر، هذا المستوى ظهر في أغلب الأعمال التي اجتهدت لجنة الانتقاء وضيعت وقتها في الفرز ونال هؤلاء المشاركون شرف الغناء بعزف وبمصاحبة لألمع العازفين للفرقة الوطنية وهذا عيب حسب رأيي الخاص.
وأدى ظهور هذه الاعمال واختيارها كذلك لحرمان بعض الأعمال التي عرضت من تويج لها فاضطرت اللجنة لاختيار أحسن ما في الأعمال الرديئة وتتويجها بجائزة في هذه المسابقة كان من الأجدر مقارنة مستواها بأغان أخرى لم تتوج والفرق جد واضح بين المستويات على غرار أغنية “تعبت” لأمير عبد الله والتي تبعد بآلاف الأميال لحنا وشعرا وأداء ونضجا عن مستوى “كلام الرجالة” لأحمد عنتر وعبد الله الخياط اللذان توجا مرتين في نفس الدورة وهذه أهم وأخطر هناة في هذه الدورة.
وفي هذا المجال لا أقصد طبعا أغنية مرايا لمحمد علي شبيل ومحمد بن صالحة والتي لا أصنفها شخصيا في الأنماط الجديدة بل في الصنف الوتري برؤية خاصة وهي بعيدة كل البعد عن شكل ما قدمه الآخرون لحنا وأداء وكلمة ولقد توجت عن جدارة وتستحق أحسن من ذلك لو دخلت مسابقة الأغنية الوترية لأنها في صميم الأغنية التونسية وصعبة المنال على الكثيرين من ناحية الغناء والتناول المقامي الذي أفضى إلى لهجة تونسية صرفة رغم صخب الآلات الغربية وأسلوب المصاحبة الغير تقليدي بالمرة الذي توخاه الملحن وقد نجح هذا الأسلوب في تفاعل الجمهور واعتراف جل الموسيقيين بقيمة الفكرة وطرافتها.
إن مثل هذا المهرجان لم يجعل ليشارك فيه كل من هب ودب، ولم يكن ليشارك فيه من وضعوا أولى الحانهم ولا لشعراء مبتدئين في تظم القصائد والأغاني ولا لأصوات لم تطأ عتبة المسارح قط ولا لموزعين دون خبرة، إن هذا المهرجان هو تتويج لمحاولات مختفة قام بها أصحابها ليكوّنوا سيرة ذاتية تخول لهم الترشح للمشاركة في هذا المهرجان أولا ثم المشاركة إن وقع الاختيار عليهم من قبل لجنة الانتقاء ثانيا، وفي المقابل يوفر لهم المهرجان فرصة لعرض أعمالهم في إطار ذو خبرة وسيرة محترمة من لجان واعلاميين وصحافة ومنسقين ومصورين ومخرجين وموسيقيين على غرار الفرقة الوطنية وخدمات عالية الجودة لمؤسسة تنمية المهرجان ولوزارة الشؤون الثقافية ولوزارات أخرى وسفارات وخدمات عامة… ان مرحلة مهرجان الأغنية التونسية تأتي بعد خوض العديد من المهرجانات المحلية والجهوية والهاوية التي جعلت للعناية بأصحاب التجارب الخاصة وتوجيههم نحو ما هو افضل وتدريبهم على اعتلاء صهوة المهرجانات بمزيد من الحرفية حتى يتوصلوا للمشاركة في مهرجان الأغنية الوطنية مثلما هو الشأن بالعازفين الذين يشاكون هذا المهرجان مع الفرقة الوطنية فهم نخبة منتقاة من أصحاب التجارب مع المجموعات الموسيقية المختلفة, كل هذه الأمور تجعل من هذا المهرجان خلاصة لتطور تجارب الموسيقيين والشعراء ذوي الخبرات، فهذا المهرجان ليس حقلا للمبتدئين، وإن تمعنا قليلا لم لا نخصص مهرجانا خاصا بهم ولجان من ذوي اختصاصهم تفهم لغتهم وأسلوبهم وستحاول طبعا تطوير عملهم وتوجههم.
كل ما سبق قوله سيسمح لي بنقدٍ أراه بناءً للجنة الفرز (وأقصد عبارة الفرز في هذا الصدد) أولا حول طريقة تقييم الاعمال وفرزها التي اعتُمدت وهي (L’ANONYMAT) والمقصود بها أن أعضاء اللجنة لا تقدم لهم أسماء الشعراء والملحنين والمغنين والموزعين في المحامل المعروضة عليهم “والنية طيبة طبعا” وأنا لا أشكك قطعا في مصداقية أي عضو ولكن، هل من المعقول أن لا يتعرف أعضاء اللجنة على أصوات أغلب المشاركين المعروفين على الساحة أو أسلوب بعض الملحنين المعروفين او أسلوب بعض الشعراء المشهورين أو حتى طرق توزيع البعض الآخر من الموزعين المعروفين؟ الإجابة قطعا أن هؤلاء المشاركين المعروفين محظوظون لأنه يقع التعرف عليهم مباشرة منذ الوهلة الأولى أو الاستماع الأول وهذا ما يُنقص مباشرة من حظوظ الآخرين الذين لم يقع التعرف على هوياتهم الفنية وهذه العملية تجعل طريقة العمل بالـ ANONYMAT غير سليمة وغير عادلة مهما حاول الافراد تبريرها بأنهم رفضوا فولان المشهور وقبلوا فلتان الغير معروف. الأحرى بهم ان تكون الأمور مكشوفة على الطاولة بكل تفاصيلها لتتساوى الحظوظ ولتكون عملية الانتقاء (واقصد بها الانتقاء) عادلة وشفافة وناصعة البياض وواضحة للكل وكل من اختار يتحمل نتيجة اختياراته وينظر في أعين الكل بثقة في النفس وينام قرير العين. ولكي تكون عملية “الانتقاء” انتقائية قـحـةً ودون شوائب نتطلع يوما ما لأن تضبط مقاييس المشاركة لذوي التجارب المسبقة والخبرة كل في مجاله وإلا فلماذا تطلب السيرة الذاتية؟ ولمزيد الإيضاح فإن هذه الدورة وما قبلها كانت تمارس عملية “الفرز” لا “الانتقاء” فعندما نكون خليطا غير متوازن (يعني نكونوا: حمص وزبيب) تسمى العملية “فرزا” أما عندما نكون في مستوى متقارب بعض الشيء (يعني نكونوا: جرابة صافي) تسمة العملية “انتقاء” بأتم معنى الكلمة، وقد يكون هذا التصنيف أو التنظيم المرتجى أحد أهم عوامل الارتقاء بالأغنية التونسية موضوع حديثنا.
ثم إن صناعة الاغنية تتطلب موهبة وخبرة وحنكة ودراية وعلما بالموسيقى والشعر وأساليب التلحين.
ونستغرب ألا يتوفر ملحن مقتدر للأغنية في لجنة الفرز أو حتى ثلاثة ملحنين كبار وعروفين في هذا المجال؟ مثل الأستاذ عبد الرحمان العيادي والفنان والأستاذ عدنان الشواشي كان من الأجدر أن يكونا في لجنة الفرز عوض توفر اثنين موزعين. وألفت النظر إلى أن لجنة الانتقاء تمثل العمود الفقري لمثل هذا المهرجان لذا يجب التفكير في تركيبتها مليا وفي طريقة تقييمها لعلنا نتوصل إلى طرق أنجع تطور من عمل ونتائج هذا المهرجان العريق ويمكن أن يشارك في هذه اللجنة شخصيات سينمائية أو أدبية أو علمية أو مسرحية يمكن لهم رؤية الأمور من زوايا أخرى ليست من اختصاص الأعضاء الآخرين وأتساءل عن إمكانية مشاركة اللجنة لمن يفهم هذه الأنماط من ذوي الخبرة حتى يكون التقييم صحيحا. أقول هذا لأني تابعت جل التعليقات التي صدرت عن موسيقيين ومفكرين ومتابعين وملاحظين وكانوا شديدي اللوم على لجنة الفرز وهي التي يعتبرها الكل المسؤول الأول عن أي اخلالات او نتائج سلبية لهذه المسابقة، بينما أرى شخصيا أن إدارة التنظيم تشاركها جانبا مهما من المسؤولية بما تفرضه عليها أساليب وطرق العمل التي تقررها مسبقا قد لا يكون للجنة رأي فيها.
هذا التركيز على التوزيع وحضور الموزعين أكثر من الملحنين أفرز عن أعمال موغلة في التوزيع على حساب تلحين الكلمات والأفكار والمقامات والإيقاعات مما أضعف المحتوى الأصلي للأعمال وهو تلحين الغناء أصلا، وقد وصف البعض هذه الدورة بفارغة المحتوى الإبداعي الأصلي وببروز وهيمنة التوزيع وحسن أداء الفرقة الموسيقية الضخمة وحسن التنظيم اللوجستي ولهم الحق في ذلك. هذا التوجه فرضته إدارة المهرجان منذ عودته في النسخة الجديدة وهو فرض أو التأكيد على التوزيع الموسيقي مما دفع بأغلب الملحنين للالتجاء إلى الموزعين قبل البدء في التلحين أحيانا وخلف هذا التوجه عامة تلاحين بالضرورة في مقامي النهاوند والكردي بالدرجة الأولى وحتى النهاوند نفسه اصطبغ بلون المينور (المقام الصغير الغربي) وأصبح لا يشبهنا في أغلب الأعمال. وفي إحصائية لـ 24 عمل وقع إنجازه في هذه الدورة نستنتج:
المقام | نهاوند | كردي | راست | بياتي | حجاز |
---|---|---|---|---|---|
المشاركات | 13 | 3 | 1 | 1 | 1 |
عدد المشاركات الإجمالي | 19 | ||||
نسبة الأعمال في المقامات الشرقية | 80% |
الطبع | أصبعين | صالحي | محير سيكاه | صيكة تونسية | رمل ماية |
---|---|---|---|---|---|
المشاركات | 1 | 1 | 1 | 1 | 1 |
عدد المشاركات الإجمالي | 5 | ||||
نسبة الأعمال في الطبوع التونسية | %20 : مؤشر خطر |
نسبة الأعمال في الطبوع التونسية 20 بالمائة: مؤشر خطر
نسبة النهاوند والكردي قرابة 70 بالمائة والبقية 30 بالمائة
نسبة الأعمال في الطبوع التونسية 20 بالمائة مقارنة بـ 80 بالمائة للمقامات الشرقية وغيرها؟؟؟؟
نلاحظ عبر الإحصائية مؤشر خطر على الهوية التونسية التي تسعى وزارة الشؤون الثقافية بكل ثقلها للمحافظة عليها بينما تكرس بعض توجهات مؤسساتها عكس ما يحافظ على الهوية التونسية وقد نتوقع في القريب العاجل ان تختفي هذه الهوية وتحل مكانها هويات مستوردة على غرار ما شهدناه من حضور لموسيقات في أغلب الأعمال المشاركة مقتبسة عن أسلوب مروان الخوري وأغاني اسمهان وبعض الموسيقيين الأتراك وغيرهم من الخليجيين والمصريين وقد سماه البعض بـ “مهرجان الموسيقى التومشريقية ولماذا لا نطلق عليه اسم “مهرجان تونس للأغنية العربية” بذلك ينتهي موضوع المقارنات. كان الاقتباس من الرصيد التونسي الوتري والصوفي محترما في محتواه رغم قلته، وذو خصوصية تونسية أثرت في الحضور وإن كان نسبة حضوره محتشمة…
وإذا ما تطرقنا لمسألة الإيقاعات فإن الإيقاعات الغربية تحتل مركز الصدارة في الأعمال المقدمة وهذا ناتج عن سياسات المهرجان والتأثيرات الإعلامية الخارجية. فالدورات الفارطة شجعت وتوجت عديد الأعمال التي تعتمد الإيقاعات الغير تونسية في أسلوبها الحني والأدائي المتأثر بموجات الغرب وبعض المدارس الجزائرية والمغربية، وفي هذه الدورة ظهرت الإيقاعات التونسية بنسبة قليلة مقارنة بغيرها فهل من منقذ للوضع الكارثي الذي أصبحت عليه الموسيقى التونسية؟ وهل أن التطوير والمواكبة يشترطان بالضرورة التخلي شيئا فشيئا عن أهم أركان الهوية الموسيقية التونسية؟ أليس عنوان المهرجان كاف لتحديد الهوية؟
وبعيدا عن الفلسفات والتعريفات لمفهوم الهوية التونسية الذي لا يزال صناع المفاهيم يتخبطون في الندوات العلمية والفنية للوصول لتحديد معالمه، نعيش بوضوح تساقط أوراق مقومات هوية العمل التونسي، فالسنة قبل الفارطة تغيب الإيقاعات التونسية والسنة الفارطة تغيب الطبوع التونسية وهذه السنة تغيب أساليب التلحين التونسية وندعو لنمط جديد هجين والسنة القادمة بإذن الله سننتظر استيراد أغنية جاهزة من بلدان أخرى بلهجة ونغمة ونمط وإيقاع غير تونسي ليرتاح الجميع من لعنة الهوية التونسية التي تلاحق المبدع الخلاق وتقيد تفكيره الجامح -على حد تعبير الكثيرين الذين يعتبرون شروط التقيد بالهوية التونسية لا يجعلهم يبدعون- ويرون أن الطبوع التونسية محدودة ولا جديد فيها يمكنهم إضافته، وأنا لست من مناصري هذا الرأي البتة. وفي هذا الصدد أقترح تدريس مادة التلحين التونسي على اللجان العلمية بالمعاهد العليا للموسيقى، أنا على يقين أنه على إثر تدريس هذه المادة سيتحسن الإنتاج الموسيقي ويعود لمجده شيئا فشيئا.
إن سياسة المهرجان فيها الكثير من التجني على محبي وعشاق خميس الترنان والشيخ العفريت وحبيبة مسيكة وشافية رشدي وراؤول جورنو والطاهر غرسة ومحمد التريكي وعلي الرياحي والشاذلي أنور وصليحة ويوسف التميمي ومحمد الجموسي والهادي الجويني وغيرهم من صناع حضارة الأغنية التونسية، وقع التجني على الطبوع التونسية كالأصبعين والمحير عراق والنوى والعراق والحسين والذيل والأصهبان والمزموم والعرضاوي وغيرهم من الطبوع التونسية وإيقاعاتها المميزة، ولإن كان لبعض الموسيقيين السابقين توجهًا متأثرا بالمقامات الشرقية فإن نسبة التأثر كانت قليلة وهو عكس ما وصلنا إليه اليوم وتحديدا في دورة هذا المهرجان 20 بالمائة تونسي مقارنة بـ 80 بالمائة شرقي وغيره. وأنا أعتبر بعض توجهات المهرجان لا تسعى لخدمة الهوية الثقافية التونسية واعتبر أن ما حدث هو نوع من اهدارا للمال العام وهذا عندما يتعلق الأمر بتقديم مهازل على ركح وزارة الشؤون الثقافية برعاية مؤسساتها وبحضور الفرقة الوطنية وباختيار من ثلة من فناني العصر ومثقفيها وبدعم من مال المجموعة الوطنية، هذا بالإضافة إلى حرمان مجموعة كبيرة من الملحنين والمغنين والشعراء والموزعين الجادين من المشاركة أصلا.
كل هذا يدعونا للتواضع والتفكير جديا فيما يخدم مصالح الهوية الوطنية التونسية، ويتوجب علينا كبح جماح الدعوات الملحة لفنون بديلة ولأنماط جديدة ولتطوير واهٍ لا يستند لمقومات صحيحة، فبالنظر إلى تاريخ الفنون، إن ظهور نمط جديد يتطلب عقود طويلة وشروط فنية صارمة نابعة من حضارة البلد الذي ظهر فيه هذا النمط، والحال أننا ننادي ونسمي “أنماط جديدة” ولم يتحدد أي نمط جديد تونسي بعد، إلا ما فرضته علينا التوجهات الغربية منذ ثلاثة عقود “كالراب” و”السلام” وغيرهم من الأنماط المستوردة التي تبناها البعض في أعمالهم وقليل منهم من حافظ على الهوية التونسية واعتمد على طبوعنا وإيقاعاتنا التونسية ولكن يظل هذا النمط مستوردا ولكن بكلام تونسي فقط في أغلب الإنتاجات، هذه الأعمال أحترم فيها عمل أصحابها الدؤوب وانتاجهم الغزيز مما جعلهم يحتلون وسائل التواصل ويشتهرون، وفي المقابل تراجع انتاج أهل الأغنية الوترية والعالمون بأصول النغمات والتلاحين، وبقي أغلبهم رهين بعض المناسبات الوطنية والمهرجانات المدعمة يعيدون نفس أعمالهم الفنية السابقة بتوزيع جديد، ويعتمدون أساسا على أغاني صليحة وقاسم كافي وغيرهم ممن صنعوا هوية للأغنية التونسية، وقد نستمع إلى إنتاجات جديدة محتشمة -إلا من رحم ربك (بعض الفنانين المجتهدين)- لكن هذا لا يجعلنا نقول أبدا بزوال الأغنية الوترية وتعويضها بأنماط أخرى فلازال جمهورها عريضا رغم كل الظروف الهدامة المحيطة بها، هذه الظروف والوسائل الجديدة التي تحاول إلغاء الهوية التونسية لا يتوجب على سلطات الإشراف دعمها والمشاركة فيها، وإن توجب علينا الاعتراف بهذه الموجات كأسوب حديث للتعبير في ظل حريات التعبير فلا يكون هذا على حساب الأغنية التونسية الأصيلة ويجب خلق أطر مناسبة وتظاهرات خاصة بهذه الأساليب والموجات الجديدة مع احترام جميع المتدخلين في هذه الأعمال فكلنا بدأنا صغارا وقمنا بتجارب مختلفة فيها الغث وفيها السمين ولم يلاقي بعضها نجاحا ولكنها كانت مرحلة لصنع شخصيتنا الفنية، وكما يقول المثل “الصغير يكبر والكبير يشيب” وكل واحد يعيش عصره ويواجه تحدياته للحياة وصراعه وسط الأجيال السابقة واللاحقة، ولا يصح إلا الصحيح.
إن هذا المهرجان يسعى في مجمل أهدافه للمحافظة على الأغنية التونسية وتطوير مجالات العمل فيها وليس من أهدافه طمس معالمها وتعويضها بغيرها وإن ظهور نمط جديد أو تبني موجة جديدة هو تعدد جميل للفن. تاريخيا لم يلغي ظهور نمط جديد الأنماط السابقة بل زاد في باقة ورود الموسيقى وردة جديدة برائحة مختلفة تاركا المجال للجميع كي يمارسوا فنهم بحُرية ويبلِّغوا صوت المشاعر الإنسانية في أجمل صورة.
وبعد الشكر العميق لكل من ساهموا في تكريم صناع مجد الأغنية التونسية على غرار علي الرياحي والهادي الجويني وصليحة ومحمد الجموسي ونعمة، لا يفوتني طبعا أن أتوجه بنقد لطيف لبعض الفنانين الكبار اللذين بالغوا في استعراض لعضلاتهم الصوتية وبعض التصرفات المفرطة في القوة في أدائهم لهذه الأغاني الخالدة، وبالغ بعضهم الآخر في تحركاته على الركح وإشاراته للفرقة الموسيقية وقائدها، وفي المقابل، من قاموا بتكريم الفنانة ذكرى محمد كانوا أكثر التزاما بأسلوب الأداء الخاص بهذه الإبداعات وهو ما التزم به كذلك ضيوف المهرجان كالفنان هاني شاكر والفنان سليم الحلو وغيرهم من أداء رصين وحضور فني ملتزم. طبعا هذا لا يفسد للود قضية وهذا نقد حررته على ضوء تعليقات عديدة وتفاعلات مختلفة على صفحات وسائل الإعلام وبعد استماع ومشاهدة لجل الأعمال المقدمة ومراحل متابعة المهرجان.
لقد كانت لفتة كريمة من منظمي المهرجان تكريم عدد ممن ساهموا في الحراك الثقافي بالبلاد التونسية، تكريم أثلج صدور المكرمين والحاضرين والمتابعين ولا مستقبل بدون تاريخ وكما يقول المثل “الإبل تمشي على كبارها” وألفت الانتباه لمجال التعليم الموسيقي ورجالاته بوزارة الثقافة، هؤلاء هم من كونوا وعلموا كل من كان على الركح وكل من حضر من موسيقيين ومن لم يحضر، كان ذلك عبر سنوات من التعليم ولم يكن لأغلبهم حظ للظهور لأن مهنة التعليم في بلادنا ليست مجالا للظهور والبروز الإعلامي لذا ارجوا تسجيل هذه الملاحظة حتى تنبع منكم لفتة كريمة لأهل التعليم الذي يعاني من صعوبات وتقصير في أغلب جوانبه الإدارية والبيداغوجية.
على هامش المهرجان انتظمت ندوة علمية بالمعهد العالي للموسيقى بتونس تحت عنوان “القطاع الموسيقي بتونس من الدولة الراعية إلى منظومة اقتصاد السوق” التي أشرف عليها الدكتور أنيس المؤدب وحضرها عدد قليل من أصحاب الشأن الموسيقي وعدد ملحوظ من طلاب المرحلة الثالثة الذين يسجلُ حضورهم ضمن كراس الحضور بدروس المرحلة الثالثة وجوبا. ولاحظت أن جل المتدخلين من الضيوف (وعددهم قليل) ممن يتدخلون دائما ويدلون بتصاريحهم لوسائل الإعلام في كل المناسبات وأغلبهم من منظمي المهرجانات والمتدخلين في الشأن الموسيقي والمسؤولين بوزارة الثقافة، وإني على أمل في أن يكون حضورهم دافعا فعليا في اقتراح أفكار وتنفيذها لتعديل مسار مهرجان الأغنية التونسية نحو الأفضل وخلق فرص أكثر لدعم وتوجيه الفنانين.
ختاما أكرر أجمل عبارات الشكر والتقدير والامتنان للفريق التقني والإداري والفني والموسيقي ولكل من ساهم في نجاح هذه الدورة نسبيا، وإن كل نقد يجب أن ينظر إليه بعين الإصلاح والتطوير لآليات التقييم والإعداد والبرمجة، ولا يبلغ عمل تمامه إلا عبر النقد البناء ومراجعة الحسابات بوعي وتواضع كبيرين. وإني لأكرر مباركتي لكل من شارك توج كان أم لم يتوج، وأتوجه بعبارات التشجيع لكل من لم يسعفه الحظ للمشاركة ولكل من أحس بمظلمة فكلنا بشر نخطأ ونصيب وهذا قدرنا الفني في عصر اختلطت فيه الأمور على جميع الأصعدة… “وربي يفرج علينا” عاشت الأغنية التونسية الأصيلة.
الأستاذ البشير البحوري